فصل: تفسير المفردات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{مَا ضَلَّ صاحبكم} أيْ ما عدَلَ عن طريقِ الحقِّ الذي هُو مسلكُ الآخرةِ.
{وَمَا غوى} أيْ وما اعتقدَ باطلًا قطُّ أيْ هُو في غايةِ الهُدى والرُّشدِ وليسَ مما تتوهمونَهُ من الضلالِ والغوَايةِ في شيء أَصلًا، وأما على الثالثِ فلأنَّه تنويهٌ بشأنِ القرآن كما أشيرَ إليه في مطلعِ سورةِ يس وسورةِ الزخرفِ وتنبيهٌ على مناطِ اهتدائِه عليه الصَّلاةُ والسلام ومدارِ رشادِه، كأنَّه قيلَ والقرآن الذي هُو عَلَمٌ في الهدايةِ إلى مناهجِ الدِّينِ ومسالكِ الحقِّ ما ضلَّ عنَها محمدٌ عليهِ الصَّلاةُ والسلام وما غَوى. والخطابُ لقريشٍ، وإيرادُه عليهِ الصَّلاةُ والسلام بعنوانِ صاحبيتِه لهم للإيذانِ بوقوفِهم على تفاصيلِ أحوالِه الشريفةِ وإحاطتِهم خُبرًا ببراءتِه عليهِ الصلاةُ والسلام مما نُفي بالكليةِ وباتصافِه عليه الصَّلاةُ والسلام بغايةِ الهُدَى والرشادِ فإنَّ طولَ صُحبتهِم له عليهِ الصَّلاةُ والسلام ومشاهدتَهم لمحاسنِ شؤونِه العظيمةِ مقتضيةٌ لذلكَ حتْمًَا. وتقييدُ القسمِ بوقت الهَوِيِّ على الوجهِ الأخيرِ ظاهرٌ وأمَّا على الأولينِ فلأنَّ النجمَ لا يهتدِي به السَّارِي عندَ كونِه في وسطِ السماءِ ولا يعلمُ المشرقَ من المغربِ ولا الشمالِ من الجنوبِ وإنما يهتدِي بهِ عندَ هبوطِه أو صعودِه معَ ما فيهِ من كمالِ المناسبةِ لما سيُحكى من تدلِّي جبريلَ من الأفقِ الأَعْلى ودنوِّه منْهُ عليهما السلام، هذا هو اللائقُ بشأنِ التنزيلِ الجليلِ. وأما حملُ هَويّهِ انتثارِه يومَ القيامةِ أو على انقضاضِ النجمِ الذي يرجمُ بهِ أو حملُ النجمِ على النباتِ وحملُ هويهِ على سقوطِه على الأرضِ أو على ظهورِه منها فمما لا يناسبُ المقامَ.
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي وما يصدرُ نطقُه بالقرآن عن هَوَاهُ ورأيهِ أصلًا فإنَّ المرادَ استمرارُ نفي النطقِ عن الهوى لا نَفيُ استمرارِ النطقِ عنْهُ كما مرَّ مِرارًا.
{إِنْ هُوَ} أي مَا الذي ينطقُ به من القرآن {إِلاَّ وَحْىٌ} من الله تعالى. وقوله تعالى: {يُوحَى} صفةٌ مؤكدةٌ لوحي رافعةٌ لاحتمالِ المجازِ مفيدةٌ للاستمرارِ التجدديِّ {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} أي مَلَكٌ شديدٌ قُواهُ وهو جبريلُ عليهِ السلام فإنَّه الواسطةُ في إبداءِ الخوارقِ وناهيكَ دليلًا على شدةِ قوتِه أنه قلعَ قُرَى قومِ لوطٍ من الماءِ الأسودِ الذي هو تحتَ الثَّرى وحملَها على جناحِه ورفعَها إلى السماءِ ثم قلبَها وصاحَ بثمودَ صيحةً فأصبحُوا جاثمينَ وكانَ هبوطُه على الأنبياءِ وصعودُه في أسرعَ منْ رجعةِ الطرفِ {ذُو مِرَّةٍ} أي حصافةٍ في عقلِه ورأيِه ومتانةِ في دينِه {فاستوى} عطفٌ على علَّمه بطريقِ التفسير فإنَّه إلى قوله تعالى ما أَوْحَى بيانٌ لكيفيةِ التعليمِ أي فاستقامَ على صورتِه التي كانَ يتمثلُ بها كلما هبطَ بالوحَيْ وذلكَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ أنْ يراهُ في صورتِه التي جُبلَ عليها وكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحراءَ فطلعَ له جبريلُ عليهِ السلام من المشرقِ فسدَّ الأرضَ من المغربِ وملأَ الأفقَ فخرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فنزلَ جبريلُ عليهِ السلام في صورةِ الآدميينَ فضمَّهُ إلى نفسِه وجعلَ يمسحُ الغُبارَ عن وجههِ قيلَ: ما رآهُ أحدٌ من الأنبياءِ في صورتِه غيرُ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسلام فإنَّهُ رآهُ فيَها مرتينِ مرةً في الأرضِ ومرةً في السماءِ وقيلَ: استوَى بقوتِه على ما جُعلَ له من الأمرِ. وقوله تعالى: {وَهُوَ بالأفق الأعلى} أفقِ الشمسِ حالٌ منْ فاعلٍ استوى {ثُمَّ دَنَا} أي أرادَ الدنوَّ من النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسلام {فتدلى} أي استرسلَ من الأفقِ الأَعْلى مع تعلقٍ بهِ فدنَا من النبيِّ، يقال تدلّت الثمرةُ ودلَّى رجليهِ من السريرِ وأدلَى دلْوَهُ والدَّوالي الثمرُ المعلقُ {فَكَانَ} أي مقدارُ امتدادِ ما بينَهما {قَابَ قَوْسَيْنِ} أي مقدارَهُما فإنَّ القابَ والقِيْبَ والقادَ والقِيْدَ والقِيْسَ المقدارُ، وقيلَ: فكانَ جبريلُ عليهِ السلام كَما في قولكَ هو مِنِّي معقدُ الإزارِ.
{أَوْ أدنى} أيْ عَلى تقديرِكم كَما في قوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ} والمرادُ تمثيلُ ملَكةِ الاتصالِ وتحقيقُ استماعِه لما أُوحيَ إليه بنفِي البُعدِ المُلبسِ.
{فأوحى} أي جبريلُ عليهِ السلام {إلى عَبْدِهِ} عبدِ الله تعالى، وإضمارُه قبلَ الذكرِ لغايةِ ظُهورِه كَما في قوله تعالى: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا} {مَا أوحى} أيْ من الأمورِ العظيمةِ التي لا تَفِي بها العبارةُ أو فأَوْحَى الله تعالى حينئذٍ بواسطةِ جبريلَ ما أَوْحى، قيلَ أَوْحى إليهِ أنَّ الجنةَ محرمةٌ على الأنبياءِ حتى تدخلَها وعلى الأممِ حتى تدخلَها أمتكَ {مَا كَذَبَ الفؤاد} أي فؤادُ محمدٍ عليهِ الصَّلاةُ والسلام {مَا رأى} أي ما رآهُ ببصرِه من صورةِ جبريلَ عليهما السلام أي ما قال فؤادُه لما رآهُ لم أعرفْكَ ولو قال ذلكَ لكانَ كاذبًا لأنه عرفَهُ بقلبِه كما رآهُ ببصرِه وقرئ {ما كذَّب} أي صدَّقَهُ ولم يشكَّ أنه جبريلُ بصورتِه {أفتمارونه على مَا يرى} أي أتكذبونَهُ فتجادلونه على ما يراهُ مُعاينةً، أو أبعدَ ما ذُكِرَ من أحوالِه المنافيةِ للمماراةِ تمارونَهُ، من المراءِ وهو الملاحاةُ والمجادلةُ واشتقاقُه من مَرَى الناقةَ كأنَّ كلًا من المتجادلينَ يمرِي ما عندَ صاحبهِ، وقرئ {أفتمْرونَهُ} أي أفتغلبونَهُ في المراءِ منْ ماريتُه فمريته ولِما فيهِ من مَعْنى الغلبةِ عُدِّيَ بعَلَى كما يقال غلبتُه عَلى كَذَا وقيلَ: أفتمرونَهُ أفتجحدونَهُ من مَراهُ حقَّهُ إذَا جحدَهُ {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى} أي وبالله لقَدْ رأى جبريلَ في صورتِه مرةً أُخرى من النزولِ نصبت النزلُةَ نصبَ الظرفِ الذي هو مرةٌ لأن الفَعْلةَ اسمٌ للمرةِ من الفعلِ فكانتْ في حُكْمِها، وقيلَ: تقديرُه ولقد رآهُ نازلًا نزلةً أُخْرى فنصبُها على المصدرِ.
{عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} هي شجرةُ نبْقٍ في السماءِ السابعةِ عن يمينِ العرشِ ثمرُها كقِلال هَجَرَ، وورقُها كآذانِ الفيولِ تنبعُ من أصلِها الأنهارُ التي ذكرَهَا الله تعالى في كتابِه يسيرُ الراكبُ في ظلِّلها سبعينَ عامًا لا يقطعُها، والمُنْتهى موضعُ الانتهاءِ أو الانتهاءُ كأنَّها في مُنْتَهى الجنةِ وقيلَ: إليها يَنْتهي علمُ الخلائقِ وأعمالُهم ولا يعلمُ أحدٌ ما وراءَها، وقيلَ ينتهِي إليها أرواحُ الشهداءِ، وقيلَ ينتهي إليها ما يهبطُ من فوقِها ويعصدُ من تحتِها قيل: إضافةُ السدرةِ إلى المُنْتهى إما إضافةُ الشيءِ إلى مكانِه كقولك أشجارُ البستانِ أو إضافةُ المحلِّ إلى الحالِّ كقولك كتابُ الفقهِ، والتقديرُ سدرةٌ عندَها مُنتهى علومِ الخلائقِ أو إضافةُ المِلكَ إلى الملكِ على حذفِ الجارِّ والمجرورِ أي سدرةُ المُنْتَهى إليهِ وهُو الله عزَّ وجلَّ قال تعالى إلى ربِّكَ المُنْتهى.
{عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} أي الجنةُ التي يأوِي إليها المتقونَ أو أرواحُ الشهداءِ، والجملةُ حاليةٌ، وقيلَ: الأحسنُ أن يكونَ الحالُ هُو الظرفَ وجنةُ المَأْوى مرتفعٌ به على الفاعليةِ. وقوله تعالى: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} ظرفُ زمانٍ لرآهُ لا لِما بعَدُه من الجملةِ المنفيةِ كما قيلَ: فإنَّ مَا النافيةَ لا يعملُ ما بعدَها فيما قبلَها، والغشيانُ بمعنى التعظيةِ والسترِ ومنه الغَوَاشِي أو بمَعْنى الإتيانِ يقال فلانٌ يغشَانِي كلَّ حينٍ، أيْ يأتينِي، والأولُ هو الأليقُ بالمقامِ وفي إبهامِ ما يغشَى من التفخيمِ ما لا يخفى، وتأخيرُه عن المفعولِ للتشويقِ إليهِ أي ولقد رآهُ عندَ السدرةِ وقتَ غشِيَها ما غشِيَها مما لا يكتنههُ الوصفُ ولا يَفي به البيانُ كيفًا ولا كمًَّا. وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضارًا لصورتِها البديعةِ وللإيذانِ باستمرار الغشيانِ بطريقِ التجددِ وقيلَ: يغشاهَا الجمُّ الغفيرُ من الملائكةِ يعبدونَ الله تعالى عندَها، وقيلَ: يزورُونها متبرّكينَ بها كما يزورُ الناسُ الكعبةَ وقيلَ: يغشاهَا سبحاتُ أنوارِ الله عزَّ وجلَّ حين يتجلَّى لها كما تجلَّى للجبلِ لكنها كانتْ أقوى من الجبلِ وأثبتَ حيثُ لم يُصبْها ما أصابَهُ من الدكِّ وقيلَ: يغشاهَا فَراشٌ أو جرادٌ من ذهبٍ، وهو قول ابنِ عباسٍ وابن مسعودٍ والضحَّاكِ. ورُويَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: رأيتُ السدرةَ يغشاها فَراشٌ من ذهبٍ ورأيتُ على كلِّ ورفةٍ مَلَكًا قائمًا يسيحُ الله تعالى، وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام يغشاهَا رفرف من طيرٍ خُضرٍ.
{مَا زَاغَ البصر} أي ما مالَ بصرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما رآهُ {وَمَا طغى} وما تجاوزُه مع ما شاهدَ هناكَ من الأمورِ العجيبةِ المُذهلةِ ما لا يُحصَى بل أثبتَهُ إثباتًا صحيحًا مُتيقنًا أو ما عدلَ عن رؤيةِ العجائبِ التي أُمرَ برؤيتِها ومُكنَ منَها وما جاوزَها.
{لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} أيْ والله لقدْ رَأَى الآياتِ التي هي كُبراهَا وعُظماهَا حين عُرجَ به إلى السماءِ فأُرِيَ من عجائبِ الملكِ والملكوتِ ما لا يحيطُ به نطاقُ العبارةِ، ويجوزُ أنْ تكونَ الكُبرى صفةً للآياتِ والمفعولُ محذوفٌ أي شيئًا عظيمًا من آياتِ ربِّه وأن تكونَ مِنْ مزيدةً. اهـ.

.قال المراغي في الآيات السابقة:

سورة النجم:
هي مكية إلا آية 32 فمدنية، نزلت بعد سورة الإخلاص، وآيها ثنتان وستون.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه:
(1) إن السورة قبلها ختمت بقوله: وإدبار النجوم، وبدئت هذه بقوله: والنجم إذا هوى.
(2) إن السورة قبلها ذكر فيها تقول القرآن وافتراؤه، وذكر هذا في مفتتح هذه السورة.
(3) إنه ذكر في التي قبلها أن ذرية المؤمنين تبع لآبائهم، وفى هذه ذكر ذرية اليهود في قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ}.
(4) إنه قال هناك في المؤمنين: {أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} وقال هنا في الكفار {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى}.
وهى كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتها، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي «أن أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) فسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف».
سورة النجم: [الآيات 1- 18]:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
{وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1)}.

.تفسير المفردات:

المراد بالنجم: جنس النجوم إذا غربت أو صعدت، يقال هوى النجم هويّا (بالفتح) أي سقط وغرب، وهويا: (بالضم) إذا علا وصعد، ما ضلّ: أي ما حاد عن الطريق المستقيم، صاحبكم: أي مصاحبكم، والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بعنوان المصاحبة لهم إيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم خبرا ببراءته مما نسب إليه، وباتصافه بالهدى والرشاد، فإن طول صحبتهم له، ومشاهدتهم لشئونه العظيمة تقتضى ذلك، ففى هذا تأكيد لإقامة الحجة عليهم، وما غوى: أي وما اعتقد باطلا، والخطاب في هذا لقريش، وما ينطق عن الهوى: أي ما يتكلم بالباطل، والمراد بشديد القوى جبريل عليه السلام، ذو مرة: أي ذو حصافة عقل وقوة عارضة، قال قطرب: العرب تقول لكل من هو جزل الرأى حصيف العقل: هو ذو مرة.
من قولهم أمررت الحبل: أي أحكمت فتله، فاستوى: أي فاستقام على صورته التي خلقه اللّه عليها عند حراء في مبادى النبوة، وهو بالأفق الأعلى: أي بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، ثم دنا: أي ثم قرب، فتدلى: أي فنزل من قولهم تدلت الثمرة، ومنه الدوالي وهى الثمر المعلق كعناقيد العنب، والقاب مقدار ما بين المقبض والسّية، ولكل قوس قابان، والعرب تقدر الأطوال بالقوس والرمح وبالذراع والباع والخطوة والشبر والإصبع، أو أدنى: أي أقرب من ذلك، والمراد بالفؤاد فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم، ما رأى أي ما رآه ببصره، أفتمارونه على ما يرى: أي أفتجادلونه على ما يراه معاينة، نزلة أخرى: أي مرة أخرى، سدرة المنتهى: هي شجرة نبق قالوا إنها في السماء السابعة عن يمين العرش، جنة المأوى: أي الجنة التي يأوى إليها المتقون يوم القيامة، يغشى: يغطى، ما زاغ البصر: أي ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومسكّن منها وما مال يمينا ولا شمالا، وما طغى: أي ما جاوز ما أمر به، آيات ربه الكبرى: أي عجائبه الملكية والملكوتية في ليلة المعراج.

.المعنى الجملي:

أقسم ربنا بخلق من مخلوقاته العظيمة التي لا يعلم حقيقتها إلا هو، وهى نجوم السماء التي تهدى الساري في الفلوات، وترشده إلى البعيد من المسافات- إن محمدا صاحبكم نبي حقا، وما ضلّ عن طريق الرشاد، ولا اتبع الباطل، ولا يتكلم إلا بوحي يوحيه اللّه إليه، ويعلمه إياه جبريل شديد القوى، ولقد رآه مرتين على صورته التي خلقه اللّه عليها بأجنحته وأوصافه الملكية: مرة بغار حراء في بدء النبوة، وأخرى ليلة المعراج حين عرج به إلى السماء، ورأى من عجائب صنع اللّه ما رأى، مما استطاع أن يخبركم به، ومما لم يستطع ذلك، فكيف بكم تجادلونه فيما أخبركم به، وتقولون طورا: إنه مجنون، وطورا آخر إنه كاهن، وطورا ثالثا إنه شاعر، وما كل هذا بالذي ينطبق على أوصافه، وهو صاحبكم وأنتم أعلم بحاله، فحق عليكم أن تسمعوا قوله، وأن تطيعوا أمره، فتفوزوا رضوان من ربه.

.الإيضاح:

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) أي قسما بمخلوقاتي العظيمة وهى النجوم التي تسير في مداراتها، ولا تعدو أفلاكها، والتي تهتدون بها في الفيافي والقفار، في حلكم وترحالكم، في سفركم وحضركم، وفى البحار، ولها لديكم منزلة عظمى في حياتكم المعيشية- إن محمدا نبي حقا، وما حاد عن سبيل الحق، ولا سلك سبيل الباطل.
وقد خاطب سبحانه بهذا القسم العرب الذين يعرفون ما للنجوم من جزيل الفضل عليهم، في تعيين المواسم والفصول، ليستعدوا للنّجعة، ويرتادوا الكلأ بعد سقوط المطر، ويزرعوا ما يتسنى لهم أن يزرعوه، وهم يتيامنون ببعضها ويتشاءمون ببعض آخر.
إلى أن القسم بها ينبهنا إلى أن هناك عوالم وأجراما علويّة يجب علينا أن نتعرّف أمرها، لنستدل بها على عظيم قدرة مبدعها وبديع صنعه.
ولقد أثبت العلم حديثا ما يدعو إلى العجب من أحوال هذه الأجرام، وسرعة سيرها، وكبير حجمها، فقد علم أن سير نور الكوكب 300 ألف كيلوم في الثانية، ومثله سير الأمواج اللاسلكية، وكلاهما يجرى حول الأرض في سبع ثانية مرة واحدة، ويجرى حول الكون كله في نحو مائة مليون سنه، فنسبة محيط الكرة الأرضية إلى محيط ما عرف من الكون كنسبة سبع ثانية إلى مائة مليون سنة.
والنظام الشمسي يشتمل على الشمس وتسعة سيارات تدور حول أكثرها أقمار، وهذه الشمس وعالمها جزء من عالم المجرّة، والمجرّة فيها نجوم تبلغ نحو 30 ألف مليون نجم كلهن شموس كشمسنا أو أكبر أو أصغر. ويقدرون عمر الشمس بنحو خمسة ملايين مليون سنة، وعمر الأرض بنحو ألفى مليون سنة، وعمر المياه عليها بنحو 300 مليون سنة، وعمر الإنسان بنحو 300 ألف سنة.
وإن شمسنا التي تزيد على أرضنا ألف ألف مرة وثلاثمائة ألف مرة هي كوكب له توابع وسيارات، وهذا الكواكب وتوابعه واحد من ثلاثين ألف مليون شمس، وهذه كلها تكوّن مجرتنا، وهذه المجرة لها نظائر، فسبحان الخلاق العليم الذي لا يعلم جنوده إلا هو.
والخلاصة- إن الرسول صلى الله عليه وسلم راشد مرشد تابع للحق، ليس بضالّ ولا هو بسالك للطريق بغير علم، ولا هو بغاو يعدل عن الحق قصدا إلى غيره، وبهذا نزه اللّه رسوله وشرعه عن مشايعة أهل الضلال من اليهود والنصارى الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، فهو في غاية الاستقامة والاعتدال والسّداد.
ثم بين السبب في عدم ضلاله وغوايته فقال: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي كيف يضل ويغوى، وهو لا ينطق عن الهوى، وإنما يضل من كان كذلك، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
ثم أكد هذا بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} أي إنما يقول ما أمر أن يبلغه إلى الناس كاملا موفورا بلا زيادة ولا نقصان.
روى أحمد عن عبد اللّه بن عمرو قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ورسول اللّه بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج منى إلا الحق».